فصل: القسم الثاني: توحيد الألوهية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية (نسخة منقحة)



شرح العقيدة الواسطية

.مقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإنه هذا الكتاب الذي يسمى (العقيدة الواسطية) ألفه حبر الأمة في زمانه: أبو العباس، شيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، رحمه الله، المتوفى سنة 728هـ.
ولهذا الرجل من المقامات - التي يشكر عليها والتي نرجو من الله له المثوبة عليها- في الدفاع عن الحق ومهاجمة أهل الباطل ما يعلمه كل من تتبع كتبه وسبرها، والحقيقة أنه من نعم الله على هذه الأمة، لأن الله سبحانه وتعالى كف به أمورًا عظيمة خطيرة على العقيدة الإسلامية.
وهذا الكتاب كتاب مختصر، يسمى (العقيدة الواسطية)، ألفه شيخ الإسلام، لأنه حضر إليه رجل من قضاة واسط، شكا إليه ما كان الناس يعانونه من المذاهب المنحرفة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، فكتب هذه العقيدة التي تعد زبدة لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالأمور التي خاض الناس فيها بالبدع وكثر فيها الكلام والقيل والقال.
وقبل أن نبدأ الكلام على هذه الرسالة العظيمة نحب أن نبين أن جميع رسالات الرسل، من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، إلى آخرهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كلها تدعو إلى التوحيد.
قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36].
وذلك أن الخلق خلقوا لواحد وهو الله عز وجل، خلقوا لعبادته، لتتعلق قلوبهم به تألهًا وتعظيمًا، وخوفًا ورجاء وتوكلًا ورغبة ورهبة، حتى ينسلخوا عن كل شيء من الدنيا لا يكون معينًا لهم على توحيد الله عز وجل في هذه الأمور، لأنك أنت مخلوق، لابد أن تكون لخالقك، قلبًا وقالبًا في كل شيء.
ولهذا كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى هذا الأمر الهام العظيم، عبادة الله وحده لا شريك له.
ولم يكن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى البشر يدعون إلى توحيد الربوبية كدعوتهم إلى توحيد الألوهية، ذلك أن منكري توحيد الربوبية قليلون جدًّا وحتى الذين ينكرونه هم في قرارة نفوسهم لا يستطيعون أن ينكروه، اللهم إلا أن يكونوا قد سلبوا العقول المدركة أدنى إدراك، فإنهم قد ينكرون هذا من باب المكابرة.

.أقسام التوحيد:

وقد قسم العلماء رحمهم الله التوحيد إلى ثلاثة أقسام:

.أحدها: توحيد الربوبية:

وهو (إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلاثة، في الخلق والملك والتدبير).
دليل ذلك قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] ووجه الدلالة من الآية: أنه قدم فيها الخبر الذي من حقه التأخير، والقاعدة البلاغية: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. ثم تأمل افتتاح هذه الآية بـ: (ألا) الدالة على التنبيه والتوكيد: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 4]، لا لغيره، فالخلق هذا هو، والأمر هو التدبير.
أما الملك، فدليلة مثل قوله تعالى: {ولله ملك السموات والأرض} [الجاثية: 27]، فإن هذا يدل على انفراده سبحانه وتعالى بالملك، ووجه الدلالة من هذه الآية كما سبق تقديم ما حقه التأخير.
إذًا، فالرب عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير.
فإن قلت: كيف تجمع بين ما قررت وبين إثبات الخلق لغير الله، مثل قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14]، ومثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المصورين: «يقال لهم أحيوا ما خلقتم» وقال تعالى في الحديث القدسي: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي»، فكيف تجمع بين قولك: أن الله منفرد بالخلق، وبين هذه النصوص؟.
فالجواب أن يقال: إن الخلق هو الإيجاد، وهذا خاص بالله تعالى، أما تحويل الشيء من صورة إلى أخرى، فإنه ليس بخلق حقيقة، وإن سمي خلقًا باعتبار التكوين، لكنه في الواقع ليس بخلق تام، فمثلا: هذا النجار صنع من الخشب بابًا، فيقال: خلق بابًا لكن مادة هذه الصناعة الذي خلقها هو الله عز وجل، لا يستطيع الناس كلهم مهما بلغوا في القدرة أن يخلقوا عود أراك أبدًا، ولا أن يخلقوا ذرة ولا أن يخلقوا ذبابًا.
واستمع إلى قول الله عز وجل: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73].
{الذين} : اسم موصول يشمل كل ما يدعى من دون الله من شجر وحجر وبشر وملك وغيره، كل الذين يدعون من دون الله: {لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له} [الحج: 73]، ولو انفرد كل واحد بذلك، لكان عجزه من باب أولى، {وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه} [الحج: 73]، حتى الذين يدعون من دون الله لو سلبهم الذباب شيئًا، ما استطاعوا أن يستنقذوه من هذا الذباب الضعيف، ولو وقع الذباب على أقوى ملك في الأرض، ومض من طيبه، لا يستطيع هذا الملك أن يستخرج الطيب من هذا الذباب، وكذلك لو وقع على طعامه، فإذًا الله عز وجل هو الخالق وحده.
فإن قلت: كيف تجمع بين قولك: إن الله منفرد بالملك وبين إثبات الملك للمخلوقين، مثل قوله تعالى: {أو ما ملكتم مفاتحه} [النور: 61] {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 61]؟
فالجواب: أن الجمع بينهما من وجهين:
الأول: أن ملك الإنسان للشيء ليس عامًا شاملًا، لأنني أملك ما تحت يدي، ولا أملك ما تحت يدك والملك ملك الله عز وجل، فمن حيث الشمول: ملك الله عز وجل أشمل وأوسع، وهو ملك تام.
الثاني: أن ملكي لهذا الشيء ليس ملكًا حقيقيًًّا أتصرف فيه كما أشاء، وإنما أتصرف فيه كما أمر الشرع، وكما أذن المالك الحقيقي، وهو الله عز وجل، ولو بعت درهمًا بدرهمين، لم أملك ذلك، ولا يحل لي ذلك، فإذا ملكي قاصر وأيضًا لا أملك فيه شيئًا من الناحية القدرية، لأن التصرف لله، فلا أستطيع أن أقول لعبدي المريض: ابرأ فيبرأ، ولا أستطيع أن أقول لعبدي الصحيح الشحيح: امرض فيمرض، لكن التصرف الحقيقي لله عز وجل، فلو قال له: ابرأ، برأ، ولو قال: امرض. مرض، فإذا لا أملك التصرف المطلق شرعًا وقدرًا، فملكي هنا قاصر من حيث التصرف، وقاصر من حيث الشمول والعموم، وبذلك يتبين لنا كيف كان انفراد الله عز وجل بالملك.
وأما التدبير، فللإنسان تدبير، ولكن نقول: هذا التدبير قاصر، كالوجهين السابقين في الملك، ليس كل شيء أملك تدبيره إلا على وفق الشرع الذي أباح لي هذا التدبير.
وحينئذ يتبين أن قولنا: (إن الله عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير): كلية عامة مطلقة، لا يستثنى منها شيء، لأن كل ما أوردناه لا يعارض ما ثبت لله عز وجل من ذلك.

.القسم الثاني: توحيد الألوهية:

وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة، بألا تكون عبدًا لغير الله، لا تعبد ملكًا ولا نبيًّا ولا وليًّا ولا شيخًا ولا أمًا ولا أبًا، لا تعبد إلا الله وحده، فتفرد الله عز وجل وحده بالتأله والتعبد، ولهذا يسمى: توحيد الألوهية، ويسمى: توحيد العبادة، فباعتبار إضافته إلى الله هو توحيد ألوهية، وباعتبار إضافته إلى العابد هو توحيد عبادة.
والعبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما المحبة والتعظيم، الناتج عنهما: {إنهم كانوا يسارعون في الخبيرات ويدعوننا رغبا ورهبا} [الأنبياء: 90]، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف.
ولهذا كانت العبادة أوامر ونواهي: أوامر مبنية على الرغبة وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم والرهبة من هذا العظيم.
فإذا أحببت الله عز وجل، رغب فيما عنده ورغب في الوصول إليه، وطلبت الطريق الموصل إليه، وقمت بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظمته خفت منه، كلما هممت بمعصية، استشعرت عظمة الخالق عز وجل، فنفرت، {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} [يوسف: 24]، فهذه من نعمة الله عليك، إذا هممت بمعصية، وجدت الله أمامك، فهبت وخفت وتباعدت عن المعصية، لأنك تعبد الله رغبة ورهبة.
فما معنى العبادة؟
العبادة: تطلق على أمرين، على الفعل والمفعول.
تطل على الفعل الذي هو التعبد، فيقال: عبد الرجل ربه عبادة وتعبدًا وإطلاقها على التعبد من باب إطلاق اسم المصدر، ونعرفها باعتبار إطلاقها على الفعل بأنها: (التذلل لله عز وجل حبًّا وتعظيمًا، بفعل أوامره واجتناب نواهيه). وكل من ذل لله عز بالله، {ولله العزة ولرسوله} [المنافقون: 8].
وتطلق على المفعول، أي: المتعبد به وهي بهذا المعنى تعرف بما عرفها به شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال رحمه الله: (العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة).
هذا الشيء الذي تعبدنا الله به يجب توحيد الله به، لا يصرف لغيره، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء والنذر والخشية والتوكل.. إلى غير ذلك من العبادات.
فإن قلت: ما هو الدليل على أن الله منفرد بالألوهية؟
فالجواب: هناك أدلة كثيرة، منها:
قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
{ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36].
وأيضًا قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18]، لو لم يكن من فضل العلم إلا هذه المنقبة، حيث إن الله ما أخبر أن أحدًا شهد بألوهيته إلا أولو العلم، نسأل الله أن يجعلنا منهم: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط}، بالعدل، ثم قرر هذه الشهادة بقوله: {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}، فهذا دليل واضح على أنه لا إله إلا الله عز وجل، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنتم تشهدون أن لا إله إلا الله. هذه الشهادة الحق.
إذا قال قائل: كيف تقرونها مع أن الله تعالى يثبت ألوهية غيره، مثل قوله تعالى: {ولا تدع مع الله إلهًا آخر} [القصص: 88]، ومثل قوله: {ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به} [المؤمنون: 117]، ومثل قوله: {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} [هود: 101]، ومثل قول إبراهيم: {أئفكًا آلهة دون الله تريدون} [الصافات: 86].. إلى غير ذلك من الآيات، كيف تجمع بين هذا وبين الشهادة بأن لا إله إلا الله؟
فالجواب: أن ألوهية ما سوى الله ألوهية باطلة، مجرد تسمية، {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23]، فألوهيتها باطلة، وهي وإن عبدت وتأله إليها من ضل، فإنها ليست أهلا لأن تعبد، فهي آلهة معبودة، لكنها آلهة باطلة، {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} [لقمان: 30].
وهذا النوعان من أنواع التوحيد لا يجحدهما ولا ينكرهما أحد من أهل القبلة المنتسبين إلى الإسلام، لأن الله تعالى موحد بالربوبية والألوهية، لكن حصل فيما بعد أن من الناس من ادعى ألوهية أحد من البشر، كغلاة الرافضة مثلًا، الذين يقولون: إن عليًّا إليه، كما صنع زعيمهم عبد الله بن سبأ، حيث جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: أنت الله حقًّا لكن عبد الله بن سبأ أصله يهودي دخل في دين الإسلام بدعوى التشيع لآل البيت، ليفسد على أهل الإسلام دينهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: (إن هذا صنع كما صنع بولص حين دخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى). هذا الرجل عبد الله بن سبأ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الله حقًّا وعلي ابن أبي طالب لا يرضى أن أحدًا ينزله فوق منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول على منبر الكوفة: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر)، يعلن ذلك في الخطبة، وقد تواتر النقل عنه بذلك رضي الله عنه، والذي يقول هكذا ويقر بالفضل لأهله من البشر كيف يرضي أن يقول له قائل: إنك أنت الله؟‍ ولهذا عزرهم أبشع تعزير، أمر بالأخاديد فخدت، ثم ملئت حطبًا وأوقدت، ثم أتى بهؤلاء فقذفهم في النار وأحرقهم بها، لأن فريتهم عظيمة- والعياذ بالله- وليست هينة، ويقال: إن عبد الله بن سبأ هرب ولم يمسكوه المهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحر السبئية بالنار، لأنهم ادعوا فيه الألوهية.
فنقول: كل من كان من أهل القبلة لا ينكرون هذين النوعين من التوحيد: وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وإن كان يوجد في بعض أهل البدع من يؤله أحدًا من البشر.
لكن الذي كثر فيه النزاع بين أهل القبلة هو: